الفكر الإسلامي
بر
الوالدين
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان
أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
قال تعالى
(وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ
تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَّلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَّهُمَا قَولاً كَرِيمًا
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا
كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) سورة الإسراء آية 23-24 بهاتين الآيتين الكريمتين
يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء تجاه الآباء . وذلك لأن
الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، وإلى التضحية من أجلهم بكل شيء حتى
بالذات، ومن ثم لايحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاجها الأبناء، فكما
تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في
البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من
الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية، وسرعان ما ينسى الأبناء هذا كله، ويندفعون بدورهم
إلى الزوجات والذرية؛ لذا فهم يحتاجون إلى استجاشة وجدانهم ليذكروا واجب الآباء
الذين أنفقوا رحيقهم كله حتى أدركه الجفاف. وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين
في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكَّد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله، ثم
تأتي الآية الكريمة لبيان إحدى صور هذا الإحسان (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ
الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) وخص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاج
فيها الآباء إلى البر والإحسان أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يتغير حالهم من شباب إلى
شيبة، ومن قوة إلى ضعف، ومن صحة إلى مرض، وقد يطول ببعضهم العمر ويعود بهم الحال
إلى ما كانوا عليه في الصغر، وكلمة (عندك) معناها في كنفك وكفالتك، سواء قرب
مكاناهما أو بعد، وهذا هو الحال الذي يجب أن يكون عليه كل ابن تجاه والديه قريبين
إليه، محل نظره تحت رعايته، مشمولين باهتمامه، لا تنفك مسؤولياته عنهما، وهما على
هذا الحال، فلا يقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم (فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفِّ
وَّلاَ تَنْهَرْهُمَا) فإذا رأيت منهما في حال الكبر الغائط والبول الذي رأياه منك
في الصغر فلا تقل لهما أف، وهذا مثل، والآية أعم من هذا، فكلمة أف تقال لكل مستثقل
ولكل شيء مرفوض. عن علي بن أبي طالب قال رسول الله ﷺ (لَو عَلِمَ اللهُ مِنَ الْعَقُوقِ
شَيئًا أَردأَ من أفٍ لذَكَره) ولم تكتف الآية الكريمة بذلك بل ذكرت (وَلاَ
تَنْهَرْهُمَا) أي لا تزجرهما ولا تغلظ عليهما (وَقُلْ لَّهُمَا قَولاً كَرِيمًا)
أي لينًا ولطيفًا، وتستكمل الآية بقية سلسلة حسن الأدب الذي يجب أن يكون عليه
الابن تجاه والديه (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وكأنما
للذل جناح يخفضه الابن لوالديه إيذانًا بالاستسلام لهما، فينبغي بحكم هذه الآية أن
يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وأفعاله، حركاته وسكناته، لايرفض
لهما أمرًا، لايرفع فيهما عينًا ولا يجد إليهما بصره لأن تلك هي نظرة الغاضب.
(وَقُلْ رّبِ ارْحَمْهُمَا) أمر الله تعالى عباده، بالدعاء إليه أن يرحم آباءهم،
فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما
بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء، (كَمَا رَبَّيانِي
صَغِيرًا) وخص التربية في الصغر ليتذكر الابن شفقة الأبوين وتعبهما في تربيته،
فيزيده ذلك إشفاقاً لهما وحناناً عليهما، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة
إلى الرعاية والحنان، فيرحمهما كما رحماه، ويرفق بهما كما رُفِق به، إذ ولياه
صغيرًا جاهلاً محتاجًا فآثراه على أنفسهما وأسهر ليلهما، وجاعا وأشبعاه، وتعريا
وكسواه، فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كان فيه من الصغر، فيلي
منهما ما وليا منه ويكون لهما حينئذ فضل التقدم، ومن العجب أنهما كانا يحملان أذاه
راجين حياته وإن هو حمل أذاهما رجاء موتهما. ولو استطاع الأبناء أن يحصوا ما لاقاه
الآباء والأمهات في سبيلهم، لاستطاعوا
إحصاء ما يستحقونه من البر، ولاستطاعوا تقدير ما يستحقونه من الشكر؛ ولكن هذا أمر
فوق الوصف. رأى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول
الكعبة، فقال: يا بن عمر أتراني جازيتُها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن
قد أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا. قال الله تعالى في سورة لقمان آية 14
(وَوَصَّينَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ
وَفِصَالُه فِي عَامَينِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيكَ إِليَّ الْمَصِيرُ) فقد
قرن الله – سبحانه وتعالى – شكر الوالدين بشكره. قال ابن عباس رضي الله عنه: ثلاث
آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تُقْبَل منها واحدة بغير قرينتها، أولهما قول الله عز
وجل (أطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم
يُقْبَل منه، ثانيهما قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلـٰـوةَ وآتُوا الزَّكـٰـوة)
فمن صلى ولم يُزكِّ لم يُقْبَل منه، ثالثهما قول الله تعالى (أَنِ اشْكُرْلِي
وَلِوَالِدَيكَ) فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يُقْبَل منه، وشكر الوالدين
بالإحسان إليهما وبرهما وبذل الجهد والمال في خدمتهم ورعايتهم . جاء رجل إلى النبي
ﷺ يقول: يا رسول
الله إن أبي يريد مالي. فقال ﷺ (أنت ومالك
لأبيك). وقد فضل رسول الله ﷺ برالوالدين
وخدمتهما على الجهاد. فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: جاء رجل يستأذن النبي ﷺ في الجهاد
معه، فقال النبي ﷺ (أحيٌ
والداك؟) قال: نعم. قال (ففيهما فجاهد) مُخرَّج في الصحيحين. وسُئل ابن عباس رضي
الله عنه عن أصحاب الأعراف من هم وما الأعراف؟ فقال: أما الأعراف فهو جبل بين
الجنة والنار، وإنما سُمِّي الأعراف لأنه مُشرِف على الجنة والنار وعليه أشجار
وثمار وأنهار وعيون، وأما الرجال الذين يكونون عليه فهم رجال خرجوا إلى الجهاد
بغير رضا آبائهم وأمهاتهم فقُتِلوا في الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول
النار، ومنعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة، فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم
أمره. سُئِل كعب الأحبار عن عقوق الوالدين ما هو؟ قال هو إذا أقسم عليه أبوه أو
أمه لم يبر قسمها، وإذا أمراه بأمر لم يطع أمرهما، وإذا سألاه شيئًا لم يعطهما،
وإذا ائتمناه خانهما. وقد وعد رسول الله ﷺ، المُحسن لوالديه، البار لهما،
المرضي عنه منهما، بحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، قال رسول الله ﷺ (من سره أن
يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه) رواه أحمد . كما قال
عليه الصلاة والسلام (بروا تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم) رواه الطبراني. وعن
ابن عباس عن رسول الله ﷺ إنه قال (من
أمسى مَرضيًا لوالديه وأصبح، أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدًا
فواحدًا، ومن أمسى وأصبح مُسخطاً لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار
وإن واحدًا فواحدًا) فقال رجل: يا رسول الله وإن ظلماه؟ قال عليه الصلاة والسلام
(وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه) كما قال النبي ﷺ (رضى الله في رضى الوالدين وسخط
الله في سخط الوالدين). وقال كعب الحبار رحمه الله: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا
كان عاقّاً لوالديه ليعجل له العذاب، وأن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارًا
بوالديه ليزيده برًا وخيرًا. وعن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى أوحى إلى موسى
صلوات الله وسلامه عليه، يا موسى وقّرْ والديك فإن من وقّرَ والديه مددتُ في عمره
ووَهبتُ له ولدًا يوقره، ومن عق والديه قصرت في عمره ووهبت له ولدًا يعقه. كما
توعد رسول الله ﷺ، المسيء
لوالديه، العاق لهما، بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وقال ﷺ (كل الذنوب
يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه) يعني
العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة. وجاء في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال (ألا
أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين) فقد قرن عقوق الوالدين
بالإشراك بالله، وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله ﷺ قال (لا يدخل الجنة عاق ولا مَنّان
ولا مُدمِن خمر) وعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ إنه قال (أربعة نفر حق على الله أن
لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مُدمِن خمر وآكل ربًا وآكل مال اليتيم ظلمًا
والعاق لوالديه إلا أن يتوبوا) وعنه ﷺ قال (لو علم الله شيئًا أدنى من
الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن
يعمل فلن يدخل النار) وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول
الله أرأيت إذا صليتُ الصلوات الخمس وصمتُ رمضان وأديتُ الزكاة وحججتُ البيت فماذا
لي؟. فقال رسول الله ﷺ (من فعل ذلك
كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه) وقال عليه الصلاة
والسلام (لعن الله العاق والديه) وقال ﷺ (لعن الله من سب أباه لعن الله من
سب أمه) وجاء عن رسول الله ﷺ إنه قال
(رأيتُ ليلة أُسْرِيَ بي أقوامًا في النار مُعلَّقين في جذوع نار فقلت : يا جبـريل
مـن هـؤلاء قـال: الــذين يشتمون آباءهم وأمهاتهم في الدنيا) ورُوي أن من شتم
والديه ينزل عليه في قبره جمر من نار بعدد كل قطر ينزل من السماء إلى الأرض، ورُوي
أيضًا أنه إذا دُفِن عاقُ والديه عصره القبر حتى تختلف فيه أضلاعه، وأشد الناس
عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المشرك والزاني والعاق لوالديه .
وأخيرًا
هل هناك ميدان للتدريب على مجاهدة النفس أفضل من ميدان خدمة الوالدين ورعايتهما
وقضاء حاجتهما والعمل على راحتهما؟. فعندما تتعرض وأنت في كامل رجولتك ونضجك
ومركزك المرموق إلى تأنيب وتعنيف من والديك على خطأ غير مقصود أو لأمر أسيئ فهمه
من ناحيتهما، ويتم تعنيفك أمام زوجتك أو أحد أبنائك أو أحد العاملين لديك، ويتملكك
الغضب فإذا بك تكبح جماحه، وتكسر شوكته، فلا يعتلي وجهك أية علامات للغضب والحنق!.
عندما يضيق بهما الحال فلا يجدان حولهما غيرك، فإذا بك تنتقص من ميزانية بيتك
لتوفي لهما حاجتهما. عندما تتأخر الحالة الصحية لأحدهما أو لكليهما ويهزمهما الكبر
والشيخوخة ويتطلب منك الأمر أن تقتصد من وقت زوجتك وأولادك، لتعطيه لوالديك، فإذا
بك تتعرض لإرهاق بدني من ناحية ومن ناحية أخرى لنظرات زوجتك وأولادك والتي هي أغنى
عن أية عبارات يمكن أن تقال. عندما تتردد عليهما ليلاً ونهارًا، لتشبع جوعهما
وتكسي عريهما وتسقي الدواء لعليلهما وتزيل أوساخ أبدانهما فتقع عيناك منهما على ما
لا يجب أن تقع عليه، وحين ترى منهما الشيء المستقذر، فإذا بك تتحمل ما لا تقدر على
تحمله، وتتقبل ما لم تعتد على قبوله، ولا تظهر أدنى تأفف!. بل والأكثر من ذلك أن
تقابل هذا كله بالقول الكريم؛ لأنه صادر عن أبويك؟!. أو ليس ذلك خير تدريب على
مجاهدة النفس؟!. أو ليس من طوع نفسه على حسن الأدب مع والديه وتحمل كل ما يصدر
عنهما، فقد كسب نفسه في غير ذلك من الأمور، ونال رضا أبويه، فضلاً عن جزائه وثوابه
عند الله. وعلى الجانب الآخر أليس هناك من بيننا من أتى عليه وقت ضن فيه على أبويه
في صغير أو كبير من الجهد أو المال، ومن كان في رغد من العيش بينما والداه يذوقان
مرارته ويكابدان ضيقه، ومن ينفق على والديه منًا منه لا واجبًا عليه، ومن دعته
حاجته للتأخر عن تلبية حاجة والديه ولو لبعض الوقت، ومن شغلته مطالب الحياة عن
السؤال على والديه إلا في المناسبات، ومن يقدم حق زوجته وأولاده على حق والديه،
ومن لم يطع والديه في كل ما أتُمِر به كبر شأنه أو صغر، ومن يتعرض على فعل أو قول
صدر منهما، ومن تعرض لتعنيف من والديه أو حتى كلمة عتاب وتتضجر منهما ولم يتمالك
غضبه معهما، ومن يتجاوز مع والديه الأدب والاحترام فيسمعهما ما لا يرضى الله عنه،
فهل هذا هو الولد الذي انتظرته الأم ليعوضها عن التضحية والشقاء التي لاقته في
حياتها، وهل هذا هو الولد الذي كان يأمل الأب فيه أن يكون سنده الذي ادخره لأيام
العجز والكبر؟!. فيا ويل هؤلاء من سخط الله عليهم، ولينتظروا عقابهم في الدنيا قبل
عقابهم في الآخرة .
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى
الثانية 1428هـ = مايو – يوليو 2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر
العربية.
الهاتف :
4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال :
0101284614
Email:
ashmon59@yahoo.com